لغة القالب

القائمة الرئيسية

تابعنا

علنية التحكيم! - الجزء الأول

 

تعرَّفت على التحكيم نظرياً خلال فترة التدريب المؤهِلة للحصول على ترخيص مهنة المُحاماة؛ وذلك من خلال الاطلاع على نظام التحكيم، والمراجع المختصة به، وحضور الدورات التي تُعنى باتفاقه، واجراءاته، وتنفيذ أحكامه . ثم ازداد شغفي بالتحكيم بعد حضور دورة بمركز التحكيم الخليجي بمملكة البحرين بعنوان "إحكام أحكام التحكيم "قدَّمها الرئيس الأسبق لمحكمة استئناف القاهرة المستشار برهان محمد توحيد أمر الله رحمه الله. أجاد المُدرِّب في هذه الدورة التي كانت أقرب لورشة عمل مُركزَّة، وجاد فيها على المتدربين من معين تجاربه، و زاخر خبراته. بعد هذه الدورة بسنوات، سنحت لي الفرصة بالبدء في سبر أغوار التحكيم عمليا و الدخول إلى ميدانه بتولّي أمانة سر هيئة تحكيم. وكنت مُتحمساً جداً لموعد جلسة التحكيم الأولى.


حدَّدت هيئة التحكيم موعد الجلسة الإجرائية الأولى، وكان رئيس الهيئة قبل موعد انعقادها بأيام على تواصل مستمر معي بغرض التأكد من تبليغ الأطراف المُحتكمة ومُمثليهم تبليغاً صحيحاً بموعد الجلسة، والإعداد للمسوَّدة المبدئية لمحضر الجلسة، والتأكد من جاهزية قاعة التحكيم.

في اليوم المُحدد حضر أعضاء هيئة التحكيم مُبكراً، وتلاهم حضور طرفي القضية التحكيمية عدا الممثل النظامي لأحد الأطراف الذي حضر متأخراً ومتلكئاً في مشيته وخلفه مجموعة من الأشخاص المُتباينين في الهيئات، والجنسيات، والأعمار؛ فمنهم من يرتدي غترة دون عِقال ، ومنهم من يرتدي بدلة، ومنهم من يرتدي قميصاً، ومنهم من تفوح منه رائحة الطيب، وذاك يحمل حقيبة فاخرة، والآخر ترى في عينيه ملامح الاندهاش من القاعة. وأعمارهم مُتدَّرجة من العشرين إلى الستين.

جلس الممثل النظامي – الذي لم تفارقه ابتسامة عريضة منذ إقباله إلى حين جلوسه- في أول الطاولة المستطيلة على يمين منصة هيئة التحكيم، وتوالى فريقه بالجلوس تِباعاً. نظرت إلى رئيس الهيئة فطلب منِّي التوجه إلى زاوية القاعة وقال لي بلطف: بلِّغ ممثل الطرف الذي حضر متأخراً بأن حضور الجلسة مقصور على الأسماء التي تضمنتها الوكالة فقط. دخلت إلى القاعة ووجهت حديثي للجميع قائلاً: فضلاً... من لا يوجد اسمه بالوكالات فليتوَّجه إلى قاعة الانتظار. فما أتممت عبارتي إلا وعاجلني المُمثل النظامي المعني بصوت مرتفع، و نبرة حادة قائلاً: " لا يحق لك .. نظام المرافعات نص على أن الجلسات علنية " فقلت له الجلسات علنية في القضاء وليس في التحكيم، فأعاد ما قاله مُهدداً ومُردفاً القول " الجلسات علنية، وأنا أطلب من الهيئة ردَّك" - وقد كان طلبه برد أمين سر هيئة تحكيم مُبتكراً وغريباً-. تدخَّل رئيس الهيئة بهدوء محاولاً أن يوضَّح ويُزيل اللَّبس الكامن لدى الممثل - على احتمال وجوده- قائلاً: السريِّة يا أستاذ مزيّة و ضمانة من ضمانات التحكيم التي نص عليها نظامه، لذلك من لا يوجد اسمه بالوكالة فليتوَّجه مشكوراً إلى الاستراحة لحين انتهاء انعقاد الجلسة. فصاح الممثل بذات النبرة الأولى و طبقة الصوت قائلاً: " أنا أطلب رد أمين السر وأطلب رد رئيس الهيئة". حينها طلب منِّي رئيس الهيئة إعداد محضر بما تم، فشرعت في كتابة المحضر بمكتب مجاور للقاعة وقبل الفراغ منه، أتى رئيس الهيئة وقال لي: الرجل فَهِم واعتذر للهيئة وللحاضرين ويعتذر منك وسيمتثل لطلب الهيئة. عُدت حينها إلى قاعة التحكيم، وإذا بالابتسامة الأولى عادت إلى مُحيَّا الممثل النظامي مُتبعاً إياها بالمُستهلك من عبارات المجاملات لرئيس للهيئة، وعضويها. ومرَّت الجلسة الاجرائية الأولى بسلام.

وردني اتصال في اليوم الثاني من الجلسة من رقم هاتف لا أعرفه- غلب على ظني أنه الممثل سالف الذكر وقد كان- فأجبت وإذا بالمتصل يقول "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مساك الله بالخير يا شيخ مؤيد، ما شاء الله عليك أمين سر مُتميز وكانت إدارة الهيئة للجلسة ممتازة، وأنا رشحتك لأن تكون مُحكَّم في قضيتين وسأعطيهم رقمك ليتواصل الأطراف معك وتتفقوا على أتعاب التحكيم" فأجبته قائلاً: أشكر ثقتك - مجازاً- وإذا كان هُناك ترشيحات في قضايا تحكيم فلتكن بعد انتهاء القضية الحالية، وأطلب منك عدم التواصل معي إلا فيما يخص موضوع القضية وسأفصح للهيئة ولأطراف الدعوى بأمر هذا الاتصال. وتمَّ تبليغ الهيئة والأطراف بالاتصال الذي على فرض فرط حُسن النيّة فيه أنه حث فعلي وجَلي على الوقوع في شَرَك تعارض المصالح وتضاربها.

استمرَّت الجلسات وصدر قرار التحكيم وانتهت القضية بحصيلة لا يُستهان بها من الخبرات و بعض الممارسات من الأطراف المحتكمة التي كانت ولا زالت نصب عيني واستحضرها دوماً مُذ كنت أمينا للسر إلى أن توليت رئاسة هيئة تحكيم.

ولكن السؤال الذي يسأله غير المختصين : ما هو التحكيم؟ ولماذا يتم اللجوء إليه في ظل وجود قضاء مُحايد ومستقل ومشهود له بالعدالة والإنصاف، ومُنخفض التكاليف كما هو الحال في المملكة العربية السعودية؟

و لماذا تُعد السرية في التحكيم إحدى أهم مميزاته؟

وسأجيب بإذن الله تعالى على هذه الأسئلة في المقال القادم...


بقلم المحامي مؤيد بن محمد السنوسي

مواضيع مقترحة

0التعليقات