الدرس الأول في المحاماة
نشر هذا المقال في 1 مايو 2017 م على صحيفة ماب نيوز الإخبارية
ويعاد نشره الآن على موقع مبادرة أداة بعد أخذ الإذن من الكاتب
اتصل بي أحد المحامين يسألني عن بعض إجراءات التحكيم وعن كيفية تقديم طلب التحكيم كوني مستشاراً قانونياً للغرفة التجارية وعندما عرَّفني بنفسه...انتقل بي إلى المحكمة الكبرى- العامة حالياً- قبل أربعة عشر عاماً وذلك عندما كنت محامياً متدرباً.
وسأحكي لكم الموقف الذي ذكرَّني به هذا المحامي:
كان المكتب الذي أتدرب به وكيلاً لأحد الشخصيات المعروفة والتي يُشار لها بالبنان فكلفني المحامي بحضور أول جلسة بالمحكمة لهذا الموكِّل المرموق وقبل الجلسة بيوم قال لي المحامي انتبه من محامي الخصم وكان يعرفه فسألته لماذا. فقال " انته انتبه وخلاص" حضرت قبل موعد الجلسة بنصف ساعة وإذا بقاعة الإنتظار رجل خمسيني حسن السمت كث اللحية علته ابتسامه ترحيب عندما نظر إليَّ. فسلمت وجلست فقال لي أأنت ابن المحامي الأستاذ محمد السنوسي؟ فقلت له نعم.. فقال لي أنعم وأكرم بابن الحبيب. فعلاً الشبه واضح ووالدك كان زميلي في الجامعة وبيننا ود كبير. ثم قال لي وكيف حال عمك فلان هل مازال يُدرِّس في الجامعة؟ فقلت نعم، وكيف حال عمك الآخر هل عاد من أمريكا؟ وعمك الثالث هل لا زال يعمل في الشركة كذا؟ وبين كل سؤال وسؤال ابتسامة لطيفة مقترنة بقسمات هادئة.
وقام بإتقان بإخراجي جُزئياً من جو الإستعداد النفسي لملاقاة خصم في دعوى إلى حديث ودي مع شخص حكيم وخبير بالمهنة في كوفي شوب مُطل على البحر.
بعد ذلك تمت المناداة على جلستنا فأصر أن أتقدمه وقال "ابداً أتفضل أنت ابن الحبيب" وبمجرد دخولنا للجلسة انقلب حسن السمت اللطيف الودود الهادىء رقيق الكلمات إلى متجهّم محمّر الأوداج موجهاً كلامه للقاضي بصوت غاضب حانق مرتفع حاد قائلا" يالشيخ هذول عشان وكلاء فلان الفلاني يبون ياكلون أموال الناس بالباطل وياخذون حقوق الناس كأن البلد لا فيها شرع ولا نظام" خيَّم الغياب الجُزئي على حواسي وأعدت النظر في الرجل أكثر من مرَّة لدرجة أني شككت أنه ليس الشخص الذي كان يحادثني في الخارج. أُصبت بحالة ذهول إلا أني تمالكت نفسي بصعوبة مظهراً رباطة الجأش. فقال لي القاضي ماهي دعواك وخروجاً من حالة الإرباك لم أتلُ دعواي وقلت له دعواي محرَّرة وسلمتها للقاضي فقال هل لديك نسخة للخصم؟ فقلت نعم فقال سلِّمه إياها فسلمته نسخة من صحيفة الدعوى وكُلي أمل أن يطلب الأجل لإحضار الرد وفعلاً طلب الأجل وتنفست الصعداء لتأجيل الجلسة.
وعند خروجنا من الجلسة عاد المحامي إلى وضعه الأول وقال لي بابتسامة تختلف عن الابتسامات الأولى بها لمحة من إظهار الدهاء الممزوج بنصر من سجَّل هدفاً "أبو محمد اعطينا رقم تلفونك يمكن نحل الموضوع صلح".
لقد نجح المحامي في تخديري موضعياً قبل الجلسة ونجح في إرباكي عند الدخول للجلسة ونجح في خلق فراغ ذهني بين الشخصيتين التي تقمصها كاد أن ينفذ منه للنيل من قوة موقفي.
وعندما عدت للمحامي الذي أعمل معه وأخذت بسرد القصة له مرتجياً أن يتعاطف معي فما كان منه إلا أن انفجر ضاحكاً وقال لي "سجِّل عندك الدرس الأول".
لقد علمني هذا المحامي درساً في ما يجب أن يكون قبل المرافعة وهو أن أكون حريصاً وموضوعياً وأن العاطفة لا مجال لها عند المبارزة بين المحامين وعند التحضير للنزول لساحة العدالة وأن المظهر الخارجي ليس عنواناً لصاحبه.
أشكر الأستاذ على الدرس الذي تلقيته منه في أول ممارستي للمهنة واحترم المدرسة التي تنتهج هذا النهج. إلا أني لم استخدم يوماً هذا الأسلوب الذي أعتبره يتنافى مع أدبياتي الخاصة في المحاماة.
بقلم: