لغة القالب

القائمة الرئيسية

تابعنا

من وقَّع...وَقَع

عندما كانت الجلسات القضائية حضورية، كنت استمتع بالحضور مُبكراً قبل مواعيد انعقادها بما لا يقل عن نصف ساعة تقريباً؛ وذلك لما للحضور المُبكر من فوائد جمَّة لا تخفى على كريم علم السادة المُحامين. 

ذات مرة... حضرت قبل موعد إحدى الجلسات بالمحكمة العامة بمكَّة المُكرَّمة، وأشعرت مُعاون القاضي بتواجدي و توجهت إلى قاعة الانتظار التي وجدت فيها رجلاً يبدو أنه في العقد السادس من العمر، فسلمت عليه وجلست، ثم شرعت بتقليب نظري في مُستندات القضية المُزمع حضورها. لم ينبس الرجل ببنت شفة طيلة وقت انتظارنا. كانت هيئة وقسمات ذاك الرجل تُوحي بالإرهاق والحزن، وكان غارقاً في التفكير وكأنه لا يوجد بقاعة الانتظار سواه. ابتدرت الرجل بالحديث مُعرفاً نفسي بأني مُحامٍ وقلت له" إن شاء الله الأمور طيبة ياعم، وإذا تحتاج شيء أنا حاضر" فتوجَّه إليَّ و قال: " من وقًع...وقَع " قالها بصوت يعلوه الكمد وبنظرات تنطق بالندم، ثم عاد إلى حالته التي كان عليها. وخيَّم الصمت على المكان. لا زالت كلمات هذا الرجل العميقة تُعيد ذات المشهد إلى مُخيلتي بين الفينة والأخرى بالرغم من مضي مدة طويلة على هذا الموقف وذلك عندما أرى من خلال جُل القضايا التي عُرضت عليّ شواهد تُثبت صحة ما لخَّصه هذا الرجل من كلمات في لحظات. 

أُوقن بأن التعميم لا يستقيم .. ولكنِّي من خلال ممارسة أعمال المُحاماة وجدت أن كثيراً ممن وقَّع على عقد لم يقرأه، وقع في شِراك من صاغه إن لم يكن سوي الطويّة. 

إن مالك العقار الذي يوقِّع عقد مُقاولة مشروعه السكني ولم يطّلع على بنود هذا العقد الذي تضمَّن تحديد مدة تنفيذ أعمال الحفر والبناء دون تحديد تاريخ البدء باحتساب هذه المدة؛ هل تبدأ من تاريخ التوقيع على العقد، أم من تاريخ استلام الدفعة المالية الأولى، أو من تاريخ استلام العقار من المالك رسمياً بحضور المهندس المُشرف على المشروع، أم من تاريخ الحصول على التصاريح والتراخيص اللاَّزمة؛ سيقع حتماً في عدم إمكانية محاسبة المقاول وإلزامه بالمدة المُحددة لإنجاز الأعمال المُتفق عليها في العقد. 

والعامل الذي يوقِّع على عقد العمل دون قراءته ويكون بند تسوية النزاعات بين طرفيه عن طريق التحكيم؛ لن تُنظر دعوى مطالبته بحقوقه أمام المحكمة العمالية لوجود شرط التحكيم، وسيكون مُضطراً غالباً لحل نزاعه مع صاحب العمل خارج نطاق التحكيم أيضاً، وذلك لارتفاع نفقات التحكيم والمُحكمين وإثقالها لكاهل العامل، الأمر الذي سيوقعه اضطراراً في معاناة عدم الحصول على حقوقه كاملة، وسيُجبر على الإذعان لما يقرره له صاحب العمل من حقوق. 

لذلك لا توقِّع على عقد قبل قراءته جيداً واستيعاب مآلات بنوده وآثارها، والأصوب والأحوط هو مراجعة العقود وتدقيقها من خلال المُختصين بها. وتذكَّر أن درهم وقاية خير من قنطار علاج، وتأكَّد بأن فهمك واستيعابك لما لأطراف العقد من حقوق والتزامات قبل توقيعه، سيوفِّر عليك وقتاً، وجهداً، ومالاً، وفي بعض الأحيان لسنين من التقاضي.

بقلم المحامي مؤيد بن محمد السنوسي

مواضيع مقترحة

0التعليقات