مذاق الأعماق!
"وعلمني السقوط ببئر نفسي أن الماء في الأعماق أحلى"
وبعد لحظات -و قد تكون أكثر أو أقل- من التأمل في سمو هذه الكلمات للكاتب والشاعر جاسم الصحيح، شعرت بمذاق حلاوة وعذوبة العزلة والاختلاء بالنفس ومصاحبتها!
واقصد بالعزلة هنا العزلة الايجابية حيث تكون مواجهة ومصاحبة النفس والحديث إليها وعنها وسبر أغوار جمالها. هناك حيث النفس وتنقيتها وتهذيبها والمحاولات للسمو بها والترفع عن كل ما يكدرها. وإدخال الروح في حالة من صفاء ونقاء الذهن والقدرة على التركيز في اللحظة ومعايشتها... والاستمتاع بها.
وهذه الصحبة للنفس، أو العزلة الإيجابية، قد تتراوح بين ساعات وأيام.. وفيها تتجدد النفس وتَتَنقى من كل ما علق بها من شوائب عكرت صفائها بتدخلات خارجية تطفلية او افكار داخلية سلبية، لتفتح لك باب او ابواب من نور تضئ عتمات قد تراكمت من ضجيج الزحام.
هناك حيث تشعر بخفة عن ثقل القيل والقال وكثرة السؤال عن الحال والأحوال فيما يعني السائل او ما لا يعنيه! بعيداً عن مهاترات الجدال و ادعاءات الكمال! بعيداً عن الامتلاء المزيف الخاوي و تجريداً من اي ادعاءات حادت عن الحق و الصواب.
الكثير من القرارات المصيرية والحيوية الناجحة في حياة الاشخاص وحياة القادة الناجحين او المؤثرين، غالباً ما تكون وليدة لتلك الفترات من الصحبة للنفس وعزلتها.
واسيني الأعرج حمّل العزلة ذنب وشرف الكتابة وقال "أن تمسك قلماً وتخط جرحاً على الورقة، معناها أن تملك قدراً كبيراً من العزلة و الجرأة"
فريدريك نيتشه طبب ذاته وداواها ووهب لها حقها وقدرتها على التمدد بالعزلة حين قال "إن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشدد عزائمها" والعزلة اخرجت أفضل ما في داخل توماس مان عندما عَزى اليها الفضل وقال "العزلة تتولد منها الأصالة الكامنة في أعماقنا"
لم اقرر خوض تجربة اكمال دراستي العليا بكل ما فيها من التزام واصرار وشعور بالغربة بعيداً الوطن والأهل والاستغناء عن الكثير من أوقات الراحة الا بعد مصاحبة للنفس في يوم من تلك الايام الصافية. وكذلك قرار الكتابة والنشر لكتاباتي بما فيها من التزام و من تبعيات اجتماعية وعائلية لم أكن لأقدم عليه إلا بمساندة تلك اللحظات من النقاء الذهني. حيث أن صفاء الذهن يشق لك طريقاً من نور يساعدك على الرؤية في العتمة و يرسم في مخيلتك ملامح الطريق المؤدي لطموحك و آمالك. وهذا ما لا تستطع الحصول عليه ان لم تعزل نفسك و تمنحها قدراً كافياً من العزلة.
وهناك الكثير غيرها من القرارات التي كانت النفس حائرة صعوداً ونزولاً بين القرار وتبعاته وما كانت صحبة النفس إلا حاسم إيجابي لتلك القرارات التي أرى أنها بداية لتحقيق أهداف وطموحات ما كان ليهدأ ضجيجها الداخلي حتى ترى مبادرات تساعدها للخروج من العتمة و إشعال شعلة البداية وما كان الفتيل الا تلك العزلة!
لا تهرب من نفسك إلا لها.. لا تقاوم رغبة روحك في حقها في صفائها التي تصل اليه بمعزل عن كل ما يكدرها.. لا تُقدر على نفسك حرمانها في سبر اغوار عالم الجمال بداخلك، ضع نفسك امام مرآة نفسك و سيشرق النور الذي بداخلك ليضيء عالمك والعالم من حولك!
*كُــــل الصعوبات ستمضي.... دمتـم في رعـايـة المـــولى.
بقلم: افراح باوزير
باحثة دكتوراه في علم الأحياء الجزيئية وهندسة الجينات
التويتر: AfrahBawazeer@